تقارير

القات.. الرحمة الكاذبة والعذاب المقنّع

جــســر  – مجيب رويد



القات… تلك الشجرة التي تفتّحت أوراقها في أرضٍ جافة من التنمية، فظنّها الناس خضراء كرم، وغافلوا أنها تمتص الماء من باطن الأرض كما تمتص الحياة من قلوبهم. شجرةٌ ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب، تُبسط خُضرتها على تراب وطنٍ منهك، وتُلقي بظلالها على حاضرٍ عليل ومستقبلٍ ضبابي.

ظاهر الرحمة: خداعٌ ناعم في ثوبٍ أخضر

نعم، للوهلة الأولى تبدو للقات مظاهر رحمة لا تُنكر:
• دخلٌ مالي للمزارع الذي اختار زرعها دون غيرها، ظنًّا أنها الطريق الأقصر للربح.
• مكسبٌ لتاجرٍ في السوق، يحملها كل صباح إلى موائد التخزين.
• ضرائب وجبايات تشكّل مصدر دخل للسلطة، تُقاسمها مع “هوامير” النقاط الأمنية والجباية.
• مجلسٌ يتسع للأصدقاء، ونكتة تتناقلها الأفواه، ومزحة تُضحك القلب، وبوحٌ يخرج من الأعماق، وظنٌّ بالتنفيس عن المكبوت.
• مادة “الإيفدرين” تتسرّب إلى الدم فتُسكر النفس بلحظة سعادة كاذبة، وتفتح أبواب المستقبل الموهوم أمام العقول.

بل ويُدار في مجالس القات بعض المشاكل المجتمعية، وتُناقش القضايا القبلية، وقد يُعفى عن قاتل، أو يُعتق مسجون. ظنّها الناس مظلة اجتماع، ومتنفّساً نفسياً، ووسيلة لحلّ النزاعات.

باطن العذاب: خساراتٌ تتكاثر في صمت

لكن خلف تلك الخضرة المبهرة… عذابٌ صامت، ينهش جسد الوطن كما ينهش الأوراق اليابسة.
• هدرٌ للماء: القات يلتهم جوف الأرض عطشًا، يسحب المياه الجوفية بلا رحمة في أرضٍ تعاني من الفقر المائي المزمن.
• نزيفٌ للمال: ملايين الدولارات تُهدر يوميًا على شراءه وتعاطيه. ميزانية شعبٍ بأكمله تنزلق في جيوب سماسرة الوهم.
• تآكل الوقت: ما يقارب 8 ساعات يوميًا تُستنزف في جلسات التخزين، ولو وُجهت تلك الساعات إلى العمل والإنتاج أو الجلوس مع الأبناء لكان اليمن في حالٍ آخر.
• تدمير البنية الزراعية: القات ألغا كل الزراعات المفيدة، فاختفت مزارع البن، والحبوب، والخضروات، واستُبدلت بخضرة لا تؤكل، وسُم لا يُشبع.
• ضعف النسيج الأسري: الآباء غائبون عن أطفالهم، والأمهات يترنّحن بين الإهمال والانهيار، فتُربى الأجيال على الفراغ والضياع.
• أمراض بالجملة: الكبد، القلب، الكُلى، الأسنان، القولون… طوابير المرضى داخل المستشفيات، والآهات تتصاعد من الجرحى بأنياب القات، وصمتٌ قاتل في وجوه المزارعين الذين يرشّون السموم لزيادة الإنتاج.

القات… حين يتحوّل إلى عدوى وطنية

القات لم يعد مجرد نبات، بل أصبح رمزًا مُخيفًا للارتباط النفسي والفكري والسلوكي:
• يذهب أحدهم إلى جبل مطلّ على السهول، فيقول: “هنا مكان يصلح لتخزينة”.
• وإن وصل إلى البحر، كرر العبارة نفسها.
• وإن دخل جنةً خضراء أو صعد هضبة، ردد ذات الجملة.
• حتى ناطحات السحاب في الخارج، لم تسلم من فكرته، فجعل من بُلكونتها مجلسًا لمضغ القات.
• وعندما يبني منزلاً، يكون أول ما يُعدّ له هو مجلس القات، وإن اشترى بيتًا، عدّله لأجل “الديوان” ومكان التخزين.

هذا الارتباط غير الطبيعي يطرح تساؤلات عميقة:
كيف لشعبٍ أن يُقيّد حاضره ومستقبله بنبتةٍ تمنحه سعادة زائفة لساعات، ثم تتركه أسير الندم والهواجس والهلوسة؟

الوجه الآخر بعد انتهاء النشوة

عندما تنتهي ساعات التخزين، لا يبقى شيء من النكت، ولا الأصدقاء، ولا المشاريع الوردية. ما تبقى:
• صداعٌ نفسي.
• أسئلة تُهاجمك بلا رحمة.
• ضيقٌ شديد، وهمٌ داخلي، واضطرابٌ في الأعصاب.
• يتحوّل الإنسان الهادئ إلى مخلوقٍ غاضبٍ، أرعن، يتخذ قرارات متهورة، ويخسر علاقاتٍ، ويُدمر ما بناه.

كل تلك المشاريع والسعادة التي رسمها القات في مخيلته، تتلاشى مع أول فنجان قهوة بعده. يتضح أنها مجرد خيال. أحلام يقظة لا تتحقق. أحلام تحتاج جهدًا، لا نشوة. تحتاج تخطيطًا، لا تعاطيًا. تحتاج صبرًا، لا مضغًا.

القات… مشروع فاشل في جسد وطن

إذا أردنا الحديث بلغة الاقتصاد:
• القات مشروع خاسر.
• يدخل من نافذة الربح السريع لكنه يخرّب الأجيال، ويُميت الأرض.
• يُشغّل آلافًا لكنه يُميت الملايين نفسيًا وبدنيًا.
• يستهلك المياه، ولا يُشبع الجياع.
• يُنتج الأمراض، لا الحياة.

أما بلغة الاجتماع:
• القات يُفرّق، لا يجمع.
• يُخدر، لا يُوعّي.
• يُميت الحوار الصادق، ويُحيي المجاملات والسطحية.
• يُنهي الانتماء العائلي، ويستبدله بـ”المجلس”، و”الربع”، و”الخزنة”.

ومضة أمل: مستقبل بلا قات

ورغم هذا السواد، يبقى الأمل موجودًا. فكم من شابٍ أقلع عن القات، فتح مشروعًا، غيّر بيئته، وأصبح قدوة.
• الإقلاع عن القات لا يعني فقدان المتعة، بل استرداد الحياة.
• يعني استعادة الوقت المهدور، واستثماره في بناء الذات والأسرة والمجتمع.
• يعني استرجاع الصحة، وصفاء الفكر، وهدوء النفس.
• يعني أن تعيش واقعًا حقيقيًا لا وهميًا، وأن تتعامل مع مشاكلك بعقلٍ سليم لا بعقلٍ مُخدر.

إن الوطن لا يحتاج إلى تخزينٍ آخر، بل إلى استثمار آخر. إلى فلاحٍ يزرع البن بدلًا من القات، إلى تاجرٍ يفتح مشروعًا حقيقيًا، إلى أبٍ يجلس مع أطفاله مساءً، لا يغيب في ركنٍ مع نبتة تغتال جسده ببطء.

الرسالة الأخيرة:

القات ليس مُشكلة فرد، بل مشكلة وطن. ومواجهة القات لا تكون بالمنع فقط، بل بالتوعية، بالبديل، بالقدوة، وبقرارٍ حاسم من كل فرد يبدأ بنفسه ثم يتسع.

فكل من أقلع عن القات، هو جندي في معركة الوعي. وكل من حافظ على صحته ووقته وأسرته، هو قائد في جبهة البناء.

ليكن قرارنا اليوم…
أن ندفن شجرة القات في أرض النسيان،
ونزرع مكانها نخلة عزّ، أو غرس أمل، أو حلم جديد
للقصه بقيه



العلم والحياه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى