صالح الفردي.. رجل من زمن نقي في زمن التزييف

كتب/ محمد العماري
في اللحظة التي يبدأ فيها الحديث عن الأستاذ صالح الفردي، تتوارى التعريفات الجاهزة وتتكسّر الأقوال التقليدية التي نستخدمها في مدح الرجال، لا لأنه يتجاوزها فقط، بل لأن هذا الرجل، منذ أول جلسة معه، يجعلك تعيد ترتيب مفهومك عن البساطة المقرونة بالعمق، وعن الثقافة التي لا تلوّح بشهاداتها، بل تنسكب من عينيه كلما تحدث أو كتب. بالنسبة لي هو ليس اسم في قائمة المثقفين، بل حالة مستثناه لها وقع خاص، وملمح مميز ،حين يتحدث، يُشعرك أن المعرفة لا تحتاج إلى الكثير من الكلام والصوت العالي، وأن الإنسان إذا صدق مع فكره، أضاء الطريق دون أن يرفع صوته.عرفته ابًا أولًا، قبل أن يكون صديقًا ورفيقًا، تعلمت من هدوئه أكثر مما تعلمت من بعض الكتب، ومن نبرة صوته ما يجعلني أراجع نفسي مرارًا في لحظات التسرع، لأن هناك أشخاص تلتقي بهم فتشعر أن الله أهداك شيئًا نادرًا، و الأستاذ صالح أحد هؤلاء، ليس لأن حياته مليئة بالتحديات، بل لأنه اختار أن يتجاوزها دون أن يفقد احترامه للمعنى، لا يشبه أحدًا، ولا يحاول أن يكون صورة مكررة من أحد… في حضوره نوع من الأُنس؛ يجعل من الجلسة درسًا، ومن النقاش العابر لحظة تنوير خفيفة تمسّ قلبك.وفي الفترة السابقة، ظل موقفه كما هو، لم يتزحزح، لم ينحني، لم يتغافل، رفض بوضوح أن يشارك في مناسبات تُزيّف الوعي وتجمّل القبح، وكان صوته عاليًا في وقتٍ سكت فيه الآخرون من أجل أن ينالوا نصيبهم من فتات السلطة، في سنوات القمع، كان قلمه كاشفًا، ومقالاته نارًا في هشيم الخوف، لم يركض خلف منصب، ولم يقايض فكرته بصداقة نافذ، ولهذا ظل بعيدًا عن دوائر الامتياز، لكنه بقي في قلب كل من يفهم ما معنى أن تكون مثقفًا حقيقيًا في زمن التزييف.وحين جاء قرار تعيينه ناطقًا رسميًا للمجلس الانتقالي الجنوبي، شعرت كما لو أن القدر قرر أن يعيد بعض التوازن في المشهد، لست ممن يفرحون بالألقاب، ولا ممن يحتفلون ويهنئون بالقرارات الرسمية، لكن لهذا القرار نكهة مختلفة، لأنه جاء لرجل لا يحتاج إلى منصب ليكون مؤثرًا، بل إن المنصب هو من يحتاج أمثاله ليكتسب شيئًا من المعنى.صالح الفردي ، حامل لرسالة، وصاحب ضمير حي، يؤمن أن الأمم تُبنى بالكلمة النقية، وبالوعي، وبحوار لا يستصغر الآخر، و كلماته ليست زخرفة، بل جسور تعبر بك من الحيرة إلى الفهم، وإن كنتُ قد تعلمت شيئًا من صداقتي به، فهو أن الفكر حين يسكن قلبًا صادقًا، يصنع من صاحبه رجلًا من زمن نقي، رجلًا كأنما جاء من قصة اسطورية، لكنه يعيش بيننا، يشبهنا ويُشبه ما نحلم أن نكون عليه.كل التوفيق استاذي، ومن قلمي هذا الامتنان، ومن قلبي هذه الجملة التي أقولها مطمئنًا: إن كل ما تعلمته من كتب الإعلام والفلسفة والسياسة لم يمنحني من الفهم، مثل ما منحني إياه حوار واحد مع أبى حسين.محمد العماري
